Skip to main content

صيدليات العراق: حيث تُباع الصحة بالمزاد العلني، والدواء لمن يدفع أكثر!

مقالات الجمعة 28 آذار 2025 الساعة 17:57 مساءً (عدد المشاهدات 442)

سكاي برس/ بغداد

كتب/ مــــــراد الغضبـــــــان في العراق، لم تعد الصيدليات مؤسساتٍ صحية، بل أسواقًا مفتوحة تتاجر بصحة المواطنين، حيث يُباع الدواء كما تُباع الخضروات، وتُحدد الأسعار وفقًا لمزاج الصيدلي وحجم أرباحه. أما الجودة، فهي قصة أخرى، إذ قد يكون الدواء مجرد حبة ملونة بلا أي فعالية تُذكر، لكن بسعر يفوق قيمته الحقيقية بأضعاف.

وبحسب تقديرات تُنسب إلى نقابة الصيادلة، هناك نحو 45 ألف صيدلية في العراق، منها 20 ألف فقط مسجلة رسميًا، أما البقية، فهي تمارس نشاطها بلا أي رقابة حقيقية، وكأنها “بسطيات” تبيع الدواء في سوق عشوائي. أما الشركات الدوائية، فهي 600 شركة مسجلة، لكن الفعالة منها لا تتجاوز 230 شركة، فيما البقية مجرد أسماء تتنقل بين العقود والمناقصات، دون أن يعرف أحدٌ مدى شرعيتها أو جودة منتجاتها.

لكن المشكلة لا تقتصر على العدد، بل تمتد إلى حقيقة أن مهنة الصيدلة نفسها فقدت معناها، فالصيدليات لم تعد أماكن تُقدم العلاج، بل تحولت إلى متاجر تُحدد سعر الدواء وفقًا لمبدأ “العرض والطلب”. دواء معين يباع في صيدلية بسعر 1500 دينار، وفي أخرى بـ5000، وفي ثالثة بـ15 ألفًا، والفرق؟ لا شيء سوى التسويق، والقدرة على إقناع المريض بأن هذا الدواء “أفضل”، رغم أنه ربما لا يحتوي إلا على مواد خام رديئة فقدت فعاليتها بسبب سوء التخزين أو التلاعب بمكوناتها.

ولأن الفساد لا يقف عند الأسعار، فهناك أيضًا العلاقة المشبوهة بين بعض الأطباء وبعض الصيادلة والمذاخر. الطبيب يصف لك دواءً معينًا، ليس لأنه الأنسب لحالتك، بل لأنه مدعومٌ من مذخرٍ معينٍ يمنحه نسبة من الأرباح، أو يموله بسفرات إلى مؤتمرات طبية، أو ربما حتى بسيارة جديدة! المذخر بدوره يستورد الدواء الأرخص والأقل جودة، ويغرق السوق به، فيما الصيدليات تبيعه للمريض الذي لا يدرك أنه وقع ضحية صفقة تجارية قذرة.

أما ما هو أخطر من ذلك، فهو أن مافيات تجارة الأدوية في العراق أصبحت قوية جدًا. فالتلاعب بالدواء ليس مجرد جريمة فساد مالي، بل هو جريمة قتلٍ بطيء تمارسها شبكات تمتلك نفوذًا قويًا. هذه المافيات تسيطر على عقود الاستيراد، وتتلاعب بالمواصفات، وتدخل إلى السوق أدويةً رديئة لا تمتلك أي فعالية، لكنها تحقق أرباحًا طائلة. وما خفي من تجارة الأدوية كان أعظم بكثير، لأن ما يُكشف عنه ليس إلا قمة جبل الجليد، أما ما يدور في كواليس كيماديا والمذاخر فهو ملف لو فُتح بجدية، لأطاح برؤوس كبيرة.

ولا أقول هذا عن سماع فقط، بل عن تجربة شخصية مررت بها مرارًا. كنتُ أجلب دواء السكر لوالدتي من خارج العراق، وكان يعمل بشكل ممتاز، لكن حين اشتريت نفس الدواء، من نفس الشركة، وبنفس المواصفات داخل العراق، لم يعمل أبدًا! بل ارتفع مستوى السكر لديها بشكل خطير، وكأنها لم تتناول الدواء أصلًا. هذا ليس مجرد خطأ عابر، بل هو واقع يتكرر مع العديد من الأدوية، حيث تجد أن العقار الذي يُباع في العراق لا يؤدي نفس الفعالية التي يؤديها خارج البلاد، مما يثبت أن هناك تلاعبًا إما في التخزين، أو في التركيبة الدوائية نفسها.

والمصيبة الأكبر، أن الصيدلي لم يعد بالضرورة شخصًا مؤهلًا، فقد أصبحت كليات الصيدلة تُخرّج آلاف الصيادلة سنويًا، بعضهم لا يملك أي معرفة حقيقية بالدواء، بل يتعلم “بالتجربة” على المرضى. الكليات الحكومية تُخرّج أعدادًا ضخمة، والكليات الأهلية فتحت أبوابها لمن يدفع، حتى أصبح لدينا جيلٌ من الصيادلة الذين لا يميزون بين الأدوية إلا وفقًا للأسعار والأرباح، وليس وفقًا للفعالية أو الجودة.

أما المذاخر، فقد أصبحت مراكز تجارة تدار من قبل رجال أعمال لا يفقهون شيئًا في الطب أو الصيدلة، لكنهم يتقنون لعبة السوق والاحتكار. بالنسبة لهم، الدواء مجرد سلعة مثل أي سلعة أخرى، تباع وتشترى دون أي اعتبار لحياة المرضى. في حين أن العلاج يبدأ بالدواء الجيد، وإذا لم يكن الدواء فعالًا، فلا فائدة من كل الفحوصات والتشخيصات، لأن النتيجة ستكون صفرًا على الشفاء.

أما وزارة الصحة، فهي غائبة أو مغيّبة، وشركة كيماديا، التي يُفترض أنها الجهة المسؤولة عن استيراد الأدوية، فهي كما وصفها وزير صحة سابق “دولة داخل الدولة”، لا يستطيع أحد الاقتراب منها. استيرادات وزارة الصحة تتجاوز ملياري دولار سنويًا، ومع ذلك، يعاني المواطنون من نقص الأدوية، أو من توفر أدوية غير فعالة، بينما مافيات كيماديا وأصحاب الصفقات السرية يزدادون ثراءً.

في النهاية، أصبح الحصول على دواء فعال في العراق رهانًا غير مضمون، فإما أن تكون محظوظًا، أو تجد نفسك تدفع ثمن دواء بلا فاعلية، أو دواء فاسد بسبب سوء التخزين. الصيدليات لم تعد أماكن للعلاج، بل صارت أشبه بمزاد علني، والدواء لم يعد أداة شفاء، بل سلعة تتلاعب بها الأيادي القذرة، دون وازع من ضمير أو رادع من قانون.

قال الله... تعالى الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا اولئك لا خلاق لهم في الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم

حمل تطبيق skypressiq على جوالك
الأكثر قراءة