سكاي برس/ بغداد
بعد تدهور الاقتصاد الإيراني نتيجة العقوبات الدولية المفروضة على البلاد منذ سنوات، توجهت طهران إلى بغداد بعد تغيير النظام في العراق عام 2003، لتعويض ما لحق بها من أضرار، لا سيما بعد وصول جماعات مقربة لها إلى مراكز قيادية في الحكومة العراقية.
ويقول مدير مركز بغداد للتنمية الاقتصادية، علي مهدي، إن إيران "توجهت بكل ثقلها التجاري إلى العراق، وأغرقت الأسواق العراقية بمنتجاتها الرخيصة، سعيا للحصول على العملة الصعبة، وهي مهمة زادتها العقوبات صعوبة".
ويربط مختصون الأزمة الاقتصادية الإيرانية بسلسلة العقوبات التي فرضت عليها من قبل المجتمع الدولي، على خلفية قضية الرهائن الأميركيين الذين احتجزوا في السفارة الأميركية بطهران، بعد الثورة الإيرانية عام 1979.
ويرى الخبير الاستراتيجي، محمد الموسوي، أن تلك العقوبات، المفروضة بموجب الأمر (12170)، أدت إلى تجميد أصول إيرانية بقيمة 12 مليار دولار، مضيفا أن "اشتباك إيران في حرب طويلة مع العراق، كبدها خسائر قُدرت بـ400 مليار دولار أميركي. واستمر فرض العقوبات على إيران بشكل متقطع طوال السنوات الأربعين الماضية، بسبب برنامجها النووي ودعمها لجماعات مصنفة على لوائح الإرهاب.
وآخر العقوبات كانت التي فرضها الاتحاد الأوربي في نوفمبر، على خلفية دعمها لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا. وذكر مدير مركز بغداد للتنمية الاقتصادية، أن استمرار إيران في عملها على ملفها النووي، "تسبب في زيادة العقوبات عليها، وفتك بقطاعها الاقتصادي، وجعلها تبحث عن طرق للحصول على العملة الصعبة، فاستغلت نفوذها في العراق لتحقيق ذلك".
في حين أشار الخبير الاقتصادي عبدالرحمن المشهداني، إلى أن إدراج إيران ضمن القائمة السوداء الخاصة بمجموعة العمل الدولية (FATF) منذ عام 2019، "أبقى طهران في عزلتها الاقتصادية، وحيّد من حريتها التجارية في المنطقة". وأوضح أن الدول المدرجة في هذه القائمة هي التي تعاني من قصور في مجال مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
مما يصعب التعامل معها اقتصاديا. نجم عن هذا التدهور الاقتصادي، حسب المشهداني، انهيار العملة الإيرانية (التومان)، حيث وصلت إلى أدنى مستوياتها، وبلغت أسعار الصرف 8 ملايين تومان للدولار الواحد.
وأدى هذا الأمر بدوره إلى حدوث تضخم مالي نتيجة الزيادة المستمرة في أسعار السلع والخدمات على مدى فترة زمنية طويلة، في السوق المحلية. كما كانت هنات تبعات اجتماعية على الداخل الإيراني بسبب التدهور الاقتصادي، وفق مهدي، ومن أبرزها "ارتفاع معدلات البطالة التي رفعت من مؤشرات الفقر في البلاد، سيما بعدما رفعت إيران سقف الميزانية الخاصة بوزارة الدفاع بنسبة 200 بالمئة، مما أثر سلبا على المستوى المعيشي للمواطنين".
ويرى الاقتصادي كاوه عبدالعزيز، رئيس جمعية حماية المستهلك، أن التدهور الاقتصادي في ايران أدى كذلك إلى ارتفاع معدلات الفساد فيها. وتؤكد مؤشرات منظمة الشفافية الدولية لعام 2023، على ارتفاع نسب الفساد في إيران. وما زال البلد في المرتبة 149 من مجموع 180 دولة بواقع 24 درجة، وهو أدنى مستوى لإيران تم تسجيله خلال الـ10 سنوات الأخيرة، حسب مقياس منظمة الشفافية الدولية.
تأثير التدهور على العراق
هذه العقوبات وجهت إيران إلى "اتباع أساليب غير قانونية للتخلص من حالة اختناق"، حسب كاوه عبدالعزيز، الذي أضاف، أن طهران "لجأت إلى تشكيل كيانات وشركات وهمية عديدة في العراق، وسحبت كميات كبيرة من الدولار عن طريق بعض المصارف من البنك المركزي بالعراق ونقلتها إلى إيران".
ولفت عبدالعزيز إلى أن هذا الأمر "دفع بالولايات المتحدة عام 2023 للضغط على البنك المركزي العراقي، لتشديد إجراءاته مع المصارف التي مولت تلك الكيانات". من جانبه، أكد مهدي أن إيران عمدت إلى زيادة صادراتها غير النفطية إلى العراق، "مستغلة بذلك حدودها الطويلة التي تصل إلى أكثر من 1200 كم".
ويؤيد هذا الرأي ما قاله السفير العراقي في طهران، نصير عبدالمحسن، في سبتمبر 2024، عن حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران الذي تجاوز 10 مليارات دولار، متوقعا بأن يرتفع الرقم إلى 20 مليار في نهاية هذا العام.
"التبادل الكبير خلق مشاكل للعراق، لأن إيران لا تقبل البيع بالعملة العراقية، ولا بالتومان الإيراني، وإنما تريده بالعملة الصعبة (الدولار)، لتدوير تجارتها الخارجية".. حسب قول مهدي، الذي أضاف أن ذلك "دفع بالتجار للاستعانة بالسوق السوداء لتأمين العملة الصعبة لأنفسهم".
وأوضح المشهداني لموقع الحرة، أن عملية إيصال العملة الصعبة للتجار الإيرانيين من العراق، دفعت التجار إلى سلوك طرق غير شرعية مثل "عمليات التهريب والطرق غير الرسمية"، خاصة أن "هناك حوالي 20 معبرا بين العراق وإيران، بعضها لا يخضع للرقابة الحكومية"، حسب قوله. من جهته، أكد عضو مجلس النواب العراقي، سوران عمر، على استمرار "عمليات التهريب بكل أنواعها، وبينها تهريب العملة عبر المنافذ غير الرسمية"، رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها السلطات العراقية للسيطرة على ملف تهريب العملة في البلاد.
وفي هذا الصدد، يلفت الخبير الاقتصادي، صفوان قصي، إلى أن "عدم انتماء العراق لمنظمة التجارة العالمية، جعله هدفا سهلا للشركات الإيرانية، التي أغرقت الأسواق العراقية بمنتجاتها"، موضحا أن الانتماء للمنظمة "سيمكّن العراق من الدفاع عن إنتاجه المحلي، والوقوف أمام الدول التي تريد إغراق أسواقه ببضائعها".
ويشير مهدي إلى طريقة أخرى اتبعتها إيران لكسب العملة الصعبة، تمثلت بـ"توفيرها الغاز للعراق، لتوليد 800 ميغاواط من الكهرباء، حيث وفرت هذه العملية كمية كبيرة من العملة الصعبة لطهارن، خاصة بعدما قامت الولايات المتحدة بإجراء استثناء للعراق، لدفع هذه المبالغ لإيران شريطة أن تستخدم لأغراض انسانية فقط".
ويضيف أن إيران استفادت من "الحركة التجارية من خلال السوق السوداء" كمصدر آخر لتأمين العملة الصعبة، رغم التضييق الذي تقوم به الحكومة العراقية لمنع تهريب الأموال من البلاد. في حين اعتبر عبدالعزيز، أن "إيران استغلت سوق العمالة العراقية في الحصول على العملة الصعبة، عن طريق تزويد العراق بآلاف العمالة الإيرانيين بطرق رسمية وغير رسمية".
وبدوره، يتطرق الخبير الاقتصادي المشهداني، إلى أن إيران لجأت إلى "تجارة السلاح لتأمين العملة الصعبة، مع جماعات مسلحة موالية لها موجودة في العراق واليمن وسوريا ولبنان"، موضحا أنها تعاملت مع روسيا أيضا حيث " زودت الاخيرة بالمسيّرات، مما وفر لها ملايين الدولارات".
الحلول
ولتقليل تأثير الانيهار الاقتصادي الإيراني على الواقع العراقي، يؤكد الخبير الاقتصادي، صفوان قصي، لموقع الحرة، ضرورة أن ينتمي العراق إلى منظمة التجارة العالمية، "للدفاع عن إنتاجه وأسواقه " والسيطرة على المنافذ الحدودية بينه وبين إيران.
ودعا قصي المعنيين في العراق إلى "رسم خريطة واضحة للاستيراد، بعقود طويلة الأجل من مصادر معروفة"، قائلا: "كلما أتقنا عملية الاستيراد والتحويل المالي من خلال حساب عُمان، كلما خفّفنا الضغط على السوق الموازي"، مبينا أنه بالإمكان توظيف هذا الأمر في استيراد أنواع محددة من البضائع والسلع الإيرانية، بما يتوافق مع السوق العراقية. فيما يرى الاقتصادي عبد العزيز أن على العراق "التوجه لتعزيز الاستثمارات والصناعة المحلية، وتوفير فرص عمل للمواطنين، والاستغناء عن العمالة الأجنبية، للحفاظ على العملة الصعبة داخل العراق".
كما يرى رئيس مركز بغداد للتنمية الاقتصادية، مهدي، أن على السلطات العراقية "التشدد على المنافذ الحدودية مع إيران، والسيطرة على الحدود الطويلة التي تجمعهما، وملاحقة التجار الذين يقومون بتهريب العملة الصعبة بطرق غير شرعية إلى إيران، ومحاسبتهم".