سكاي برس/ خاص
كتب مراد الغضبان
لم تعد الدراما العراقية أداة إبداعية تعكس الهوية الوطنية، بل تحولت إلى منصة لتكريس الانحلال وتشويه الوعي، بعدما غزتها موجة من الابتذال والاستعراض الرخيص. في ظل غياب الرقابة وضعف المؤسسات الثقافية، تصدرت نجمات التعري والفاشنستات المشهد، وجرى استبدال القيم الفنية الحقيقية بمحتوى يخدم أجندات مشبوهة، وكأن هناك عملية ممنهجة لإعادة تشكيل وعي المجتمع العراقي وفق مقاييس لا تمتّ بصلة إلى تاريخه وقيمه.
هذا الانحراف لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة انهيار معايير الإنتاج الدرامي، حيث باتت شركات الإنتاج تُدار بمنطق المال والنفوذ، وليس وفق اعتبارات فنية أو وطنية. في هذا الفراغ، أصبح اختيار الممثلين مرهونًا بعدد متابعيهم على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لو كانت شهرتهم قائمة على الفضائح والإثارة الرخيصة. لم تعد المواهب الشابة تجد طريقها إلى الشاشة، بينما تُفتح الأبواب أمام شخصيات لا تمتلك الحد الأدنى من المؤهلات الفنية، الأمر الذي يطرح تساؤلًا خطيرًا: من المستفيد من هذا الانحطاط الدرامي؟
الأمر لا يتوقف عند غياب الجودة، بل يمتد إلى تغييب القضايا الوطنية الكبرى. بينما توظف دول مثل مصر وسوريا درامتها لإبراز بطولات جيوشها وأجهزتها الأمنية، نجد أن الدراما العراقية تتجاهل تضحيات القوات المسلحة والحشد الشعبي في مواجهة الإرهاب، بل وتستبدلها بأعمال تكرّس صورة مجتمع منفلت لا هوية له. وحتى حين يُطرح موضوع وطني، فإنه يأتي في إطار سطحي ومشوّه، لا يليق بحجم التضحيات التي بذلها العراقيون للحفاظ على سيادة بلدهم.
أما القنوات الفضائية العراقية، فقد لعبت دورًا رئيسيًا في الترويج لهذا المحتوى الرديء، حيث منحت المساحة الأكبر للمسلسلات الهابطة، وأقصت الأعمال الجادة التي تحترم وعي المشاهد. اللافت أن هذا الاتجاه لا يبدو عشوائيًا، بل يثير تساؤلات حول الجهة التي تدفع بهذا المسار الإعلامي، ولماذا يتم تهميش المحتوى الذي يعكس حقيقة المجتمع العراقي، مقابل فرض صورة مشوّهة عنه؟
الدراما ليست مجرد ترفيه، بل هي سلاح ناعم قادر على تشكيل وعي الأجيال وصياغة صورة المجتمع في الداخل والخارج. القوى الكبرى أدركت منذ عقود خطورة التحكم في الصورة الذهنية للدول عبر الإعلام والفن، والعراق اليوم ليس استثناءً من هذه القاعدة. استمرار هذا الانحدار دون تصحيح سيؤدي إلى كارثة ثقافية ستدمر الهوية العراقية لعقود قادمة، ما لم يتم فرض رقابة حقيقية على الإنتاج، وإعادة توجيه الإعلام العراقي نحو تقديم أعمال تحترم تاريخ هذا البلد ومكانته.
السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم: هل هناك من يملك الشجاعة لكبح هذا الانهيار، أم أننا أمام مرحلة تُمحى فيها الهوية الثقافية العراقية بالكامل، تحت غطاء “الترفيه” و”حرية التعبير”؟